فصل: باب: سَجْدَةِ {تَنزِيلٌ} السَّجْدَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ قَوْلِ الإِمامِ في خُطْبَةِ الكُسُوفِ‏:‏ أَمَّا بَعْد

وقد مَرَّ أنه لا خُطْبةَ فيه عندنا، وإنما كانت خُطبتُهُ صلى الله عليه وسلّم من الخُطَبِ العامة لا من متعلَّقَاتِ الصلاة كما يُعْلم من سياق البخاري‏.‏ وعن مالك رحمه الله تعالى أن كلَّ صلاةٍ فيها الخُطبة ففيها الجَهْرُ، وما لا خُطبةَ فيها لا جَهْرَ فيها أيضًا‏.‏ ولما لم تكن فيها الجَهْرُ عندنا لم تكن الخُطبة أيضًا‏.‏ وعن سَمُرَةَ بن جُنْدُب أنه لم يَسْمَع فيها قراءةً‏.‏ وعن عائشةَ أنه قَرَأ فيها سورةَ كذا وكذا

قلتُ‏:‏ ويمكنُ أن يُحْمَلَ ما رَوَتْهُ عائشةُ رضي الله تعالى عنها على الحَذَر منها فقط، مع كونها امرأةً لا يبلُغُها صوتُ الإمام إلا بعد صفوفِ الرِّجال‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ في كُسُوفِ القَمَر

باب‏:‏ الرَّكْعَةُ الأُولَى في الكُسُوفِ أَطْوَل

وذكر ابن حِبَّان في سيرته صلاتَه صلى الله عليه وسلّم بالجماعة في خُسوف القمر السنة الخامسة‏.‏ قال الحنفيةُ رحمهم الله تعالى‏:‏ يُلَّى فيه فُرَادَى‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ بل مِثْلُ كُسوف الشمس‏.‏ وقال صاحب «الهَدْي»‏:‏ لم يُنْقل أنَّه صلَّى في كُسوف القمر في جماعةٍ إلا ما ذكره ابنُ حِبَّان‏.‏

قلتُ‏:‏ وأَكْبَر ظَنِّي أن في بعض كُتُب الحنفية‏:‏ أَنَّ الجماعة في الخُسوف محتملةٌ وإن لم تكن سُنّةً‏.‏

باب‏:‏ الجَهْرِ بِالقِرَاءَةِ في الكُسُوف

فذهب أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى إلى الإسرار بها‏.‏ وذهب صاحباه ومالك رحمهم الله تعالى إلى الجَهْر لِثبوت الخطبة فيها‏.‏ وكلّ صلاةٍ ثبتت فيها الخُطبة ففيها الجَهْر‏.‏ وقد عَلِمْت أن الخُطبة لم تكن من معلِّقَاتِ الصلاة عندنا، فلزِم الإِسرار‏.‏

كتاب‏:‏ سُجُودِ القُرْآن

باب‏:‏ ما جاءَ في سُجُود القُرْآن وَسُنَّتِهَا

باب‏:‏ سَجْدَةِ ‏{‏تَنزِيلٌ‏}‏ السَّجْدَة

وهي واجبةٌ عندنا، وعند الجمهور سنةٌ، وَوَجْهُه أنه ليس عندهم مَرْتَبةِ الواجب‏.‏ وجَزَم المصنِّفُ رحِمه الله تعالى بسُنِّيتِها، ورأيتُ نَقْلا عن أحمد رحمه الله تعالى أنها مُؤكَّدةٌ في الصلاة، وغيرُ مؤكدةٍ في الخارج‏.‏

ولنا استقراءُ القرآن العزيز، فإنه إما أَمَر بها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب‏}‏ ‏(‏العلق‏:‏ 19‏)‏ أو حَكَى استنكاف المنكرين عنها، لقوله‏:‏ ‏{‏وإذا قُرِىء عليهمُ القرآنُ لا يَسْجُدُون‏}‏ ‏(‏الانشقاق‏:‏ 21‏)‏ أو أَثْنَى على مَنْ سجدها عند سماعها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تُتْلَى عليهم آياتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏ 58‏)‏ أو حَكَى فِعْل الأنبياء في السجود، وكلّها تدلُّ على الوجوب‏.‏

أما الأول فظاهرٌ، لأنه أمَرَ بِهَا، وأَمْرُهُ تعالى مُفْتَرضُ الطاعةِ‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فأيضًا كذلك، لأنه لا يستحقُّ الذمَّ إلا بِتَرْك الواجب‏.‏

وأما الثالث‏:‏ فقد أمرنا باقتداء الأنبياءِ السابقين فيما لم نمنع عنه‏.‏

ولنا أيضًا ما عند مسلم‏:‏ «إذا تلا ابنُ آدم آيةَ السجدةِ فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي ويقول‏:‏ أمِر ابنُ آدم بالسجود فَسَجَد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجودِ فلم أَسجُد فلي النار»‏.‏ قال النووي‏:‏ إنَّه مقولةُ إبليس‏.‏

قلتُ‏:‏ وهو في سياقِ التسليم دون الترديد‏.‏ وللشافعية أن يقولوا‏:‏ إنَّ الوعيد معقولٌ على تَرْك المُسْتَحب إذا قَارَن تَركه تَرْك الواجباتِ أيضًا، ألا تَرَى أنه يُنْكَرُ على المعصيةِ مِنْ طَالِحٍ ما لا يُنْكَر على تلك المعصيةِ إذا كانت مِنْ صالحٍ‏.‏ فتلك المعصيةُ وإنْ تُذْكر في السياق لكن تُرَاعى عند الوعيدِ أفعالُهُ الأُخَر أيضًا‏.‏ وحينئذٍ يمكن أن يكونَ الوعيدُ على تَرْكِهم سجودَ التلاوة في الذِّكْر فقط، ويكونُ مَحَطُّه تَركَهُم السجودَ الصلوية أيضًا‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الوعيدَ وإن كان على تَرْك سُجودِ التلاوة، لكنه نظرًا إلى تركهم السجود الصلوية أيضًا‏.‏ وقد مرَّ نَحْوُه في كتاب الإيمان‏:‏ عند تحقيق كونِ الحدودِ كفاراتٍ أو زواجرَ، وكذا في بَحْثِ وجوب الجماعة‏.‏

1067- قوله‏:‏ ‏(‏قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم النَّجْمَ بمكَّةَ فسجَد فيها وسجَد مَنْ مَعُه غيرَ شيخٍ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفي الروايات أنه سجدَ معهم المشركون أيضًا‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وذلك لإجراء الشيطانِ تلك الكلماتِ على لسانهِ صلى الله عليه وسلّم تلك الغرانيق العُلَى وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى فزعموا أنه يَمْدَحُ طواغِتَهُمْ فسجدوا لها‏.‏ ولما استصعب العلماءُ تَمَكُّنَ الشيطانِ مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بهذه المَثَابَةِ، قالوا‏:‏ إنَّ الشيطَانَ أهونُ على اللَّهِ مِنْ أنْ يُسَلِّطَه على رسوله بشيءٍ وقد سَبَق منه الوَعْدُ‏:‏ ‏{‏أنَّ عبادي ليس لك عَلْيهم سُلْطَانٌ‏}‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 42‏)‏ وإنما لَبَّس هو عليهم فقرَأَها بلهجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بحيث لم تَتَميَّز عندهم قراءتُهُ من قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم وكلُّ ذلك عندي خلافُ الواقع، ويُوجِب رَفح الأمانِ عن الشَّرْع، فإنه إذا لم يَقْدِر على تَمَثُّلِهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم في الرؤيا‏.‏ فأَنْ لا يَقْدِر على إجراء كلمةٍ على لسانِه في اليقظة أَحْرى‏.‏

فأقول‏:‏ أما أولا‏:‏ فأيّ داعيةٍ إلى التزام التباسِ اللهجةِ باللهجةِ، ألا ترى أن الأغلاطَ قد تَقَعُ في المجامع بدونه أيضًا‏.‏

وأما ثانيًا‏:‏ فيمكن أن يكون سجودُهم حين أَسْلموا كلُّهم في أوائل حالهم‏.‏ فقد أخرج الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني‏:‏ «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما أَظْهَرَ الإسلامَ أَسْلَم أَهْلُ مكةَ، حتى إنه كان يقرأُ السجدةَ فيسجُدون، فلا يَقْدِر بعضُهم أن يسجدَ من الزِّحَام، حتى قَدِم رؤساءُ قريش‏:‏ الوليدُ بنُ المغيرة، وأبو جَهْل وغَيْرُهُما، وكانوا بالطائف، فرجعوا وقالوا‏:‏ تَدَعُون دينَ آبائِكُم» اه‏.‏

فهذا وإنْ نظر فيه الحافِظُ لكنه يدلُّ على أنهم أسلموا في أوَّل أَمْرِهم، ثُم ارتدُّوا بعد رجوعِ صناديد الكفار إليهم، وحينئذٍ لا بأسَ بِحَمْل سجودِهم إذ ذاك‏.‏ فإنْ قلت فَلِمَ وَصَفَهم في الرواياتِ بالشِّرْك، كما في الروايات‏:‏ «وَسَجَد معه المُشْرِكُون»‏.‏ قلتُ‏:‏ لأنهم وإن كانوا مُسلمين عند السجودِ إلا أنَّهم لما صاروا مُرتدِّين- حين الحكاية- صحَّ وَصْفُهم به باعتبار الحالةِ الراهنة، وإنما العبرةُ للخَواتيم‏.‏ وقد أخرجه الطحاوي رحمه الله تعالى أيضًا في باب‏:‏ فَتْح مكةَ عُنوةً وإسنادُهُ ضعيفٌ‏.‏ ثم رأيت هذه الحكايةَ في «تاريخ ابنَ معِين»، فإنه ذكرها في أوله وبدأ كتابَه بها‏.‏

وأما ثالثًا‏:‏ فلم لا يجوز أن يكون المرادُ من الغَرَانِيقِ الملائكةَ، ولا سيما إذا وَصَفَهم اللَّهُ تعالى بالأجنحةِ‏.‏ وكذلك الغُرْنُوق طائرٌ، وحينئذٍ فالملائكة أَشْبَهُ منها بالنسبةِ إلى الأصنام، فأولى أن يكونوا هم المرادين بها، فلما تلاها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وصفًا لهم، حملوه على أنها صِفَةٌ لأَصْنَامِهم‏.‏ ثم رأيتُ حكايةً في «معجم البلدان» لياقوت الحَمَوي تحت لفظ‏:‏ اللاّتِ والعُزَّى والمناة، ولم أرَها في غيره، أن وظيفةَ قريش في الجاهلية كانت‏:‏ والّلاتِ والعُزَّى تلك الغرانيقُ العُلَى‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ومن هنا انكشف مدلول آخَر في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى‏}‏ ‏(‏النَّجْم‏:‏ 20‏)‏ أيضًا فإنهم تكلَّمُوا فيه حتى كاتب فيه ابنُ المُنَيِّر وابنُ الحاجب، وصَنَّف محمدُ بنُ إسحاق رسالةٌ في ترديد تلك القصَّة التي عند المفسرين‏.‏ ومحمد بن إسحاق هذا معاصرٌ، للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وضَعَّفَهُ الناسُ، والعجبُ منهم أنَّه إنْ أتَى بالضِّعَاف في باب المغازي جعلوا يُجَرِّحُونه، والدَّارقطني يأتي بالمختلَطات في بابِ الأحكام ثُم يبقى إمامًا، وقد طالع أحمدُ رحمه الله تعالى كُتُبَهُ ومع ذلك لا يرضى عنه‏.‏

والحاصل‏:‏ أنه لا بُعْد في أن يكونَ أحدٌ منهم قرأ تلك على طَوْر وظيفتِهِ عند تلاوة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم سورةُ النجم، ثُم وقع النَّاسُ في الغلط، ولا حاجة إلى التزامِ ما التزموه‏.‏ أما تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 52‏)‏ فسيجيءُ تَحْقِيْقُه على وَجْه ألطف إن شاء الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ سَجْدَةِ ص

باب‏:‏ سَجْدَةِ النَّجْم

عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنه قال‏:‏ «ليس من عزائمِ السجود، وقد رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يَسْجُدُهَا»‏.‏ وأخرجه النَّسائي‏:‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سَجَد ص فقال‏:‏ «سَجَدَها داودُ توبةً، ونحنُ نَسْجُدُهَا شُكْرَا»‏.‏ وروى البخاريُّ عن العَوَّام قال‏:‏ «سألتُ مجاهِدًا عن السجدة في ص‏.‏ قال‏:‏ سئل ابنُ عباس فقال‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدَى اللَّهُ فَبُهُدَاهُمُ أقْتِدِه‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 90‏)‏، وكان ابن عَبَّاس يَسْجُدُ فيها» اه‏.‏

قال الزَّيْلَعي‏:‏ إنَّ حديثَ ابن عباس بَعْدَ النَّظَرِ إلى طُرُقه أولى أن يكونَ لنا، فإنه ذُكِرَ فيه سجودُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لها، ثُمَّ تَلا الآيةَ المشيرةَ إلى الإتيان بها، وأَمَر بالسجودِ بتلاوتها، وسجدها بنفسه‏.‏ فدلَّ على أنه ذهب إلى السجود فيها‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ «ليست من عزائمِ السُّجُودِ» أي نسجُدُها شُكْرًا فقط لا توبةً كما سجدها داود‏.‏ ومعنى‏:‏ «سَجَدَهَا تَوْبَةً» أنه سجدها لتقرُّرِ سَبَبِهَا في حقِّه عليه الصلاة والسلام، بخلافها في حَقِّنا، فنحن نسجدُهَا شُكرًا لما أنعم اللَّهُ على داودَ عليه الصلاة والسلام بالغفران‏.‏ فإذن هو بيانٌ لحقِيْقَتها لا لِحُكْمِها‏.‏ وأما حُكْمُهَا فكما وَصَفَه مِنْ فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إياها‏.‏ وأيضًا يمكنُ أن يكونَ مرادُهُ عدم لزوم السجود خاصة، بل تتأدَّى بالرُّكوع أيضًا، لما في الآيةِ مِنْ ذِكْر الرُّكوع فقال‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وفي «الفتاوى الظهيرية»‏:‏ أنَّ سجدةَ التلاوةِ تتأدَّى عندنا بالركوع، سواءٌ، تليت في الصلاة أو خارجِهَا‏.‏ وهو المختار عندي، وعليه عملُ السَّلف وإن لم يكن في عامَّة كُتُبِنَا‏.‏ ففي «المُصنَّفِ» لابن أبي شَيْبَةَ‏:‏ أن السَّلَف إذا كان أحدُهم يقرأُ القرآنَ ويَمُرُّ على آيةِ سجدةٍ، يركعُ في الطريق»‏.‏ فدلَّ على ما قلنا‏.‏

وقد تمسَّك الحنفيةُ على تلكِ المسألةِ بتلك الآية، حيث ذُكِر فيها الرُّكوعُ بَدَل السجود‏.‏ وأَقرَّ به بعضُ المفسرِّين وإن ردَّ عليه الشيخ ابنُ الهُمَام‏.‏ وهذا الاستدلالُ ناهضٌ عندي، واعتراض الشيخ ابنِ الهُمَام رحمه الله تعالى ساقط كما سنقرره‏.‏

ثم إنَّه لا سجدَة في «ص» عند الشافعية، وعندهم في «الحجِّ» شجدتان، وعندنا في «الحجِّ» سجدةٌ واحدةٌ‏.‏ وعند أحمد رحمه الله تعالى فيها سجدتان وفي «ص» أيضًا سجدةٌ، فازداد عددُ السجدات عنده‏.‏

وأنكر مالكٌ رحمه الله تعالى أن يكونَ في المُفَصل‏.‏

قلتُ‏:‏ تَعَدُّدُ السجودِ في الحج محمولٌ عندي على تعدُّدِ القراءة، فإنهم لما اختلفوا في مَوْضِع السجود في سورةٍ باعتبار اختلافِ القراءةِ، كما عند الطحاوي، فأيُّ بُعْد لو التزمنا تَعَدُّدَ آياتها باختلاف القراءة أيضًا‏.‏ فيمكن أن تكونَ سجدةً واحدةً باعتبار قراءةٍ وسجدتين باعتبار قراءةٍ أخرى‏.‏

باب‏:‏ سُجُودِ المُسْلِمِينَ مَعَ المُشْرِكِينَ، وَالمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيسَ لَهُ وُضُوء

ولعله اختارَ أداءَ السجود بدون طهارة‏.‏ وذهب إليه الشَّعْبِيُّ من السَّلَفِ، واستدل بسجود المُشْرِكين، فإنهم نَجَس وليس لهم وضوءٌ، ثُمَّ سَجَدُوا على سجودِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم

قلتُ‏:‏ والجواب عنه سَهْلَ، فإنه لا دليلَ على عبرةِ سجودِهم أيضًا، بل الراوي لما لَمْ يجد لَفْظًا عَبَّرَ عن خُرورهم على جباههم بالسجود وإن لم يكن سجدةً فِقْهًا‏.‏ وفي قول البخاري رحمه الله تعالى دليلٌ على ما مر معنا أن النجاسةَ في المُشْرِكِ فوقَ نجاسةِ الاعتقاد‏.‏

أما الجواب عن أثر ابن عمرَ رضي الله عنه‏:‏ فأولا‏:‏ إنه أثرٌ لم يَتَّبِعْه الصحابةُ رضي الله عنهم‏.‏ وثانيًا‏:‏ في الهامش‏:‏ «على وضوء» بحذف «غير»، فتردَّد النَّظرُ في مذهبه‏.‏ ثُمَّ التفقه له لو كان اختارَ أداءَ السجودِ على غير وضوءٍ أنها عبادةٌ على اللِّسَان لا على الجَسَد، والعبادةُ على اللِّسَانِ أذكارٌ ولا وضوءَ فيها، ولخفاءِ معنى الصلاةِ فيها‏.‏ وراجع الهامش‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَم يَسْجُد

ظاهرُ الروايةِ أنها تَجِب على التراخي، وفي الرواية الشاذَّة كما في «التاتارخانية» أنها على الفور‏.‏ وعندي كلاهما صحيحٌ، فإن اعتمد على نَفْسه فكما في ظاهر الرواية، وإلا فكما في «التاتارخانية»‏.‏ ولا رَيْب في أن عظمةَ كلامِه تعالى تَقْتَضي أن تُسجد على الفور، فإنه كآدابِ المَلِك عند الحضور في مجلسه، وتلك الآدابُ تجب عند الحضور بدون تراخٍ، فكذلك ينبغي أن يسجُدَ عَقِيْبَ التلاوةِ أو السَّمَاع بلا تَوَقُّف‏.‏ ولعلَّ تَعَدُّدَ الرُّكوع في صلاة الكسوف أيضًا من باب أداءِ آدابِ الحضرةِ الآلهِيَة المتجلية إذ ذاك، فهذا هو الأصل، نعم لو تَرَاخى فيها لا تفوتُ عنه‏.‏

1072- قوله‏:‏ ‏(‏أَنَّه قَرَأَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ‏{‏وَالنَّجْمِ‏}‏ فلم يَسْجُدْ فِيها‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ عدمُ سجودِه على الفورِ لا يوجِبُ عدمَ السجودِ فيها رأسًا‏.‏ ثُم إنَّ زَيْدَ بنَ ثابتٍ لما كان فيه بمنزلةِ الإمام ولم يَسْجُد هو لِعُذْرٍ لم يَسْجُد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أيضًا‏.‏ وقال الشيخ ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّ رَجُلا لو قَرَأَ سجدةً على قومٍ، يستحبُّ لهم أن يجعلوا فيها صورةً للصف ويجعلوا التَّالي إمامًا إلا أنه لا يتقدمهم، لعدم كَوْنِ الجماعةِ حقيقةً‏.‏ وخرج منه أن التالي لو سجدَها يتأكَّدُ الوجوبُ في حقِّ السامعين أيضًا‏.‏ وإن أخَّرها هو تتأخَّر عن القومِ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ سَجْدَةِ‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَآء انشَقَّتْ‏}‏

تَعْرِيضٌبالماليكة، لأَنَّه ليس عندهم في المُفَصَّلات سَجْدَةٌ‏.‏

باب‏:‏ مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ القَارِىء

باب‏:‏ ازْدِحامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الإِمامُ السَّجْدَة

أي يُستحبُّ أن يجعلوا الصف عند أداء السجود، كما مرَّ عن ابن الهُمام رحمه الله تعالى ويشيرُ إليه قوله‏:‏ «إنَّك إمامُنا»‏.‏

باب‏:‏ مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُوجِبِ السُّجُود

اختار مذهبُ الجُمهور أنها سُنةٌ‏.‏ وقيل لِعْمَران ابن حُصَين‏:‏ «الرَّجُلُ يَسْمَعُ السجدةَ ولم يجلس لها، قال‏:‏ أرأيت لو قعد لها»، وجوابُ «لو» محذوفٌ، أي لا يجبُ عليه شيءٌ‏:‏ فإذا لم يجب على المستمَع القاعدِ لها، فَعَدَمُهُ على السَّامِع غير القاعد لها بالأَوْلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأَنَّه لا يُوْجِبه‏)‏ هذا فَهْمٌ مِنْ البخاري‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن لفظه مُبْهَم، فاحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ «ولم يَجْلِس لها» أي سمِع آيةَ السجدة فذهب مارًّا ولم يجلس لها، ففيه نَفْي الجلوس، وهو ليس بواجبٍ عندنا أيضًا‏.‏ نعم تجِب على ذِمَّته ويؤديها متى وَجَد فُرصةً‏.‏ والصريحُ فيما أراده البخاري رحمه الله تعالى ولم يكن لها جَالِسًا، ثُم الأَقْرَبُ أَنَّ الأَخْذَ بهذه الشِّدَّةِ في باب العربية إنما يُنَاسِبُ في القرآنِ العزيز، أو الأَحاديث التي تُعَيَّنُ كونُها مرويةً باللفظ لا غَيْرِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سَلْمَان‏:‏ ما لهذا غَدَوْنَا‏)‏ كان سلمانُ رضي الله عنه خَرَج من صلاةِ الصُّبْح، فجعل قاصُّ يَقُصُّ، فحدَّثَتِ به نَفْسُهُ أنه لا يجلس له‏.‏ فتلا آيةَ السجدة ليجب عليه المُكْثُ لها، فقال سَلْمانُ‏:‏ «ما لهذا غدونا»‏.‏ أي إنَّما غَدَوْنِا لأَجْل الصلاةِ‏.‏ وقال عثمان‏:‏ إنما السجدةُ على مَنْ اسْتَمَعها‏.‏ وظاهرُهُ أنه ذَهَب إلى السنية‏.‏ أما فَرْقُ السماعِ والاستماع فغيرُ متأتٍ عندي، لكونه من الأمور القلبية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ ‏(‏الأَعْراف‏:‏ 204‏)‏ مع أَنَّه لا يستمِعُ إلا مَنْ شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يَسْجُدُ لِسُجُودِ القَاصِّ‏)‏ وفي الفِقه‏:‏ لو ذكر اسمَ اللَّهِ على عادتِهِم عند السؤال، لا يُنْدَبُ للسامع أن يقول‏:‏ جَلَّ ذِكْرُهُ أو نحوُهُ، بخلافِ ما لو سمعه من غيرهِ فأَنَّه يُنْدبُ له أن يقول كلمة مشعرة بالتعظيم، كما يُنْدَبُ الصلاةُ عند سماعِ اسمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قلتُ‏:‏ بل يُنْدبُ عند السماع من سائلٍ أيضًا‏.‏

1077- قوله‏:‏ ‏(‏عَمَّا حَضَرَ‏)‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ متعلِّقٌ بقوله‏:‏ أخبرني، أي أخبرني راوٍ عن عثمانَ، عن رَبِيْعَةَ عن قِصَّةِ حُضُورِه مَجْلِسَ عمرَ رضي الله تعالى عنه‏.‏

1077- قوله‏:‏ ‏(‏وَزَاد نافِعٌ عن ابنِ عمرَ رضي اللَّهُ تعالى عنه‏:‏ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إلا أَنْ نَشَاءَ‏)‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ أي زاد نافعٌ في مَقُولةِ عمرَ رضي الله تعالى عنه‏.‏ وقال العَيْني رحمه الله تعالى‏:‏ في مقولةِ ابن عمرَ رضي اللَّهُ تعالى عنه‏.‏

قلتُ‏:‏ وقِصَّةُ عمرَ رضي الله عنه هذه أقوى ما يُمكنُ أن يُحتجَّ به على سُنِّيةِ السجودِ، فإنه تلا سورةَ النَّمل يومَ الجمعة فسجد لها مرةً، ثُمَّ لم يَسْجُد لها في الجمعة التالية، ثُمَّ قال‏:‏ «إنَّما نَمُرُّ بالسجودِ فَمَنْ سجد فقد أصاب، وَمَنْ لم يسجد فلا إِثْم عليه»‏.‏ وذلك بِمَحْضَرٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولم أَرَ عنه جوابًا شَافيًا بعدُ، وما فتح الله عليّ أنه تبين لي أن الأُسوةَ لعمرَ رضي الله عنه في صنيعه في السجود- في جُمعةٍ دون جمعة- ما عند أبي داود عن أبي سعيد الخُدْري أنه قال‏:‏ «قرأ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم وهو على المنبر «ص»، فلما بَلَغ السجدةَ نعزَل فَسَجَد وسجد الناسُ معه، فلما كان يومٌ آخَر قرأها، فلما بلغَ السجدةَ تَشَزَّنَ الناسُ للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إنما هي تَوْبَةُ نَبِيَ، ولكني رأيتُكُمْ تَشَزَّنْتُم للسجودِ، فنزل فَسَجَدَ وسَجَدُوا» اه‏.‏ فخرج منه وَجْهُ اجتهاد عمرَ رضي الله عنه في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنْ كان سجودُهُ في «النَّمل»، وسجودُهُ صلى الله عليه وسلّم في «ص»‏)‏ فهذا هو الذي دعا عمرَ رضي الله عنه إلى سجودِهِ في جُمْعةٍ دون أخرى، فإنَّه اتَّبع فيه ما كان عنده من أُسْوَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقد ثبت عندنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان التزمَ السجودَ فيها بعده، وكان يسجدُها‏.‏ وإذن لم يَبْقَ قلقٌ فيما فَعَلَه عمرُ رضي الله عنه، فإنه حكايةٌ لِفِعْله حين كان لا يرى السجودَ فيها عزيمةً، كما أخرج أحمدُ رحمه الله تعالى في «مسنده»، والحاكم في «مُسْتدركِه»، والمُنْذرِي في «الترغيب» وقَوَّاه عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه فهذا أنه قال‏:‏ «رأيتُ رؤيا‏:‏ إنِّي أَكْتُبُ سورةَ «ص»، فلما بَلَغْتُ السجدةَ رأيتُ الدَّوَاةَ والقلمَ وكُلَّ شيءٍ يَحْضُرُني انقلبَ ساجِدًا‏.‏قال‏:‏ فَقَصَصْتُهَا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم فلم يَزَل يَسْجُدُ بِهَا» اه‏.‏ ونحوه عند ابنِ كثير في «تفسيره»‏.‏

وعند البيهقي «فَغَدَوْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَمَر بالسجودِ فيها»‏.‏ اه‏.‏ ففيه دليلٌ على أنه كان في أوَّل أَمْرِه يرى فيها رُخْصَة، لما رأى أبو سعيد رضي الله عنه رؤياه أَمَر بالسجودِ فيها‏.‏

والحاصل‏:‏ أنه قد تبين عندنا عُمر رضي الله عنه، وانكشفَ وَجْهُه، وهو أنه كان فيما كان السجودُ رخصةَ، فإِذَا عَزَمَ الأَمْر تَحتمَّ بالسجود‏.‏ويمكنُ أن يقال‏:‏ إن النفي راجِعٌ إلى القيد، والمعنى أَنَّ السجدةَ ليست واجبةً بِعَيْنهَا، فمن لم يسجد فلا أثم عليه، لأن الرُّكوعَ أيضًا ينوب عنها، وهو روايةٌ عندنا في خارج الصلاة أيضًا، كما في «الفتاوى الظهيرية»‏.‏

وذكر الإمام الرازي في تفسيره‏:‏ أنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى استدل عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 24‏)‏‏.‏ وفي «فتح الباري»‏:‏ أنَّ بعضَ السَّلَف أنكروا سجدة «ص»، لعدم كونِ لَفْظِ السجود في آيتها‏.‏

قلتُ‏:‏ وإذن ذَهَب بعضُ السَّلف إلى نَفْي السجود رأسًا نظرًا إلى لَفظ الركوع، فإثبات السجودِ فيها مع التزامِ أدائها بالركوع أَهْوَنُ‏.‏ وحينئذٍ معنى مارواه ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنَّ اللَّهَ لم يَفْرِض السجودَ إلا أنْ نشاءَ، أي لم يَفْرِض علينا السجودَ بِخُصُوصه، بل كفى عنه الرُّكوعُ أيضًا، إلا أن نشاءَ السجدةَ فنأتي بها‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ في الصَّلاةِ فَسَجَدَ بِهَا

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مِنَ الزِّحَام

لو قرأ الإمامُ آيةَ السجدة، ثُمَّ ركع واجتزأ بركوعِهِ عن الجسود، فَسَدت صلاةُ القوم في بعض الصُّور، كما في «القِنية»‏.‏ وقال المخدوم الهاشم رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّ تفرداتِه غيرُ مقبولةٍ، لأنه معتزليُّ الاعتقاد وإن كان حنفيَّ المذهب‏.‏ وقد استمدَّ كتابه من نحو خمسةَ عشرَ كتابًا من كُتُب المعتزلة‏.‏

كتاب‏:‏ تقْصيرِ الصَّلاة

باب‏:‏ ما جاءَ في التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُر

قال الحافظ رحمه الله تعالى في هذه الترجمةِ أَشْكَالٌ، لأن الإقامةَ ليست سببًا للقَصْر، ولا القَصْرَ غايةُ الإِقامة‏.‏ فقيل‏:‏ إنه انقلب اللَّفْظُ‏.‏ والمعنى‏:‏ كم يَقْصُر حتى يقيمَ‏؟‏ وقيل‏:‏ كم مدة يقيم حتى يَقْصُر، وعددُ الأيام المذكورة سببٌ لمعرفةِ جوازِ القَصْر فيها‏.‏

واعلم أنه لم يبلغ حديثٌ مرفوعٌ في تجديد مدةِ القَصْر إلى مَرْتبةِ الصحة، وحديث ابن عباس رضي الله عنه في فَتْح مكةَ ومدة الإِقامة فيه تسعةَ عشرةَ، على اختلافٍ فيه، وحديث أنس رضي الله عنه في حَجَّة الوَداع ومدة الإقامة فيها‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ بِمِنًى

باب‏:‏ كَمْ أَقامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم في حَجَّتِه

قال‏:‏ «صليتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ركعتين بمنى، وأبي بكر وعمرَ، وعثمانَ رضي الله عنهم صدرًا من إمارته‏.‏ ثُمَّ أَتَّمَهَا‏.‏

واعلم أن القَصْر رخصةٌ عند الشافعية، وعزيمةٌ عندنا‏.‏ قال الحافظُ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى‏:‏ والذي عَلِمْنَاه مِنْ سُنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم هو القَصْرُ لا غير، وهو مذهبُ أبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما، وكذلك مذهب عثمانَ رضي الله عنه فوافقنا في المسألة‏.‏ وأما إتمامُه فليس بناءً على جوازِ الإِتمام، بل بناء على التأويل‏.‏ وقد نُقِلَ على وجوهٍ عند الطحاوي وأبي داود، وتكلَّلم فيها الحافظُ رحمه الله تعالى فَذَكَر أنها لا تُوْجِبُ الإِتمام‏.‏

قلتُ‏:‏ وسها الحنفيةُ حيث أضاعوا وقتَهم في الجواب عن تلك التأويلات‏.‏ فإنه لو كان فيها قَلَقٌ لكان في تأويل عثمانَ رضي الله عنه‏.‏ أما مسأل القَصْر والإِتمام فلا أثر لها فيها، فإنه لم يَتِم إل بالتأويل، فَمَن كَانَ لا يرتضى بها فلينازع مَنْ كان أَتَمَّ بتلك التأويلاتِ إن كان له هِمَّةٌ لمقاومته، وليس لهم حَقٌّ علنيا، فإنَّا لم نَقُل بجواز الإِتمام بتلك التأويلات‏.‏ وقد غالط فيه بعضٌ من الشافعية، وغَلِظ فيه بتعضٌ من الحنفية، فجعل يتكلمُ في الجواب عما أوردَهُ، ولم يَدْرِ أن مسألةَ وجوبِ القَصْر غيرُ سألةِ جواز الإِتمام بتأويل دون تأويل‏.‏ وليس للشافعيةِ في جواز التقصير إلا ما عند الدارقطني عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قَصَرَتْ في فتح مكةِ وأَتَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فلما أَخْبرَتْهُ قال‏:‏ أَحْسَنْتِ‏.‏ قال ابن تيمية‏:‏ وهو موضوع‏.‏

قلتُ‏:‏ كلا لا أَزْيَدَ من أن يكون معلولا، كما قال به ابنُ كثير، لأنها لم تكن في هذا السَّفَر مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كما قال به محمد بن إسحاق في سيرته‏.‏ ونَقَل تلك العلةَ عند المِزِّي في رواية النسائي فاستحسنها‏.‏ وأيضًا فيه‏:‏ «كان يَقْصُر ويتِمُّ، ويُفْظرُ ويَصُوْمُ»‏.‏ وإسنادُهُ مستقيمٌ‏.‏ والجواب عندي أن هذا التحسينَ من باب عدم التعاقب على أمرٍ ماضٍ سبق عنها قبل الاستفسار مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإنها لو كانت في هذا السَّفَر لكانت تابعةً، فلعلَّها نَوَت الإِقامةَ فَأَتمَّت ولم تدر أن نيةَ الإِقامةِ إنما تعتبرُ من المتبوع دون التابع، فإذا رَدَّت الأَمْرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لم يعاقِبْها عليه، وكأنه أَغْمَضَ عَمَّا فعلَتْه وهي غيرُ عالِمة‏.‏

وأُجيب عن الثانية أنَّ فيها تَصْحيفًا، والصحيح أن الضمائرَ فيها للمؤنث‏.‏ أي تَقْصُر وتُتِمم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فهو حكايةٌ عن فِعْل عائشةَ رضي الله عنها‏.‏ وقيل‏:‏ يَقْصُر أي في السفر‏.‏ ويتِمُّ أي في الحَضَر، أو يَقْصُر في السفر إذا لم يَنْو الإِقامة ويتِمُّ إذا نواها‏.‏

وبالجملة لما لم يَثْبُتِ الإِتمامُ في السَّفَر إلا عن عثمانَ وعائشةَ رضي الله عنهما، وهو أيضًا بالتأويل، ثبت أن المَذْهَبَ مَذْهَبُ الحنفية رحمهم الله تعالى، وإليه ذهب الجمهور‏.‏ ولذلك لما بلغ إتمامُ عثمانَ رضي الله عنه عَبْد الله بن مسعود رضي الله عنه استرجع، كما في الحديث الآتي‏.‏ فإن قلت‏:‏ لَمَّا كان مذهبُ ابن مسعود رضي الله عنه كما وصفت، فَلِمَ ائتم به وصَلَّى خَلْفَه أربعَ ركعاتٍ‏؟‏ على أنه يثبتُ عنه جوازُ اقتداءِ المفترضِ خَلْفَ المتنفل‏.‏ فإنَّ عثمان رضي الله عنه حينئذٍ متنفِّلٌ في الشَّفْع الأخير عنده، وهو باطِلٌ عندكم‏.‏

قلتُ‏:‏ هذه المسألةُ مُجْتَهَدٌ فيها، والاقتداء في جِنْسِ هذه المسائلِ بجوزُ من واحدٍ لآخَر، كما في «الدر المختار» عند تعديد الواجبات، فَصَرَّح في ضِمْنه‏:‏ أنَّ المتابعةَ تَصِحُّ عندنا في الاجتهادات كلها‏.‏ وأَوْضَحَهُ الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى، ونقله الحافظ ابن تيمية عن الأئمة الأربعة‏.‏

قلتُ‏:‏ فهذا بابٌ عندنا وسيعٌ، فيتَّبع الإمام في رَفْع اليدين والتأمين أيضًا لو اتفق الاقتداء بشافعي رحمه الله تعالى‏.‏ وقد قدمنا الكلام فيه مبسوطًا‏.‏ ويَدُلُّ عليه أن الخليفةَ هارونَ الرشيد اقتصد مرةً فقام إلى الصلاةِ ولم يتوضأ، فاقتدى به أبو يوسف رحمه الله تعالى وما ذلك إلا لكون الاقتداء جائزًا، ولولا ذلك لما كان أبو يوسف رحمه الله تعالى ليقتدي به فإنه أَوْرَعُ من ذلك، كما في «البحر الرائق»‏:‏ أنه كان يبكي عند نَزْعه، فسأله الحاضرون عن بكائِه، فقال‏:‏ إنما أبكي من أجل ما قَصرتِ في قضائي عن هارون الرشيد، فإنه وذميًا ترافعا إليّ مرةً في أَمْرٍ فلم أعبأ بالأميرِ لكونه أميرًا، ورَكَنْتُ إلى الذِّمي‏.‏ فَمَنْ كان بكاؤه لهذا، كيف يُظنُّ به أن يكون اقتدى بالخليفة مع عدم جوازه عنده‏؟‏ فإنه إذا لم يعبأ به في القضاء، فما في الاقتداء‏.‏

ثُمَّ لو تكلَّم إمامٌ شافعي لا يجوز الاقتداء به عندي، وذلك لأن نَقْض الطهارة من خارج غير السبيلين مختلفٌ فيه اختلافًا فاشيًا بين الصحابة رضي الله عنهم، بخلاف مسألة الكلام، فإنه لا دليلَ له عندهم غيرُ واقعة مُبْهَمة لا يُدْرَى مُسْتقرُّها ومستودَعُها فافترقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آمَنَ ما كَانَ‏)‏ وصيغةُ التفضيل بينهما مضافٌ إلى المصدر، فتكون مَصْدرًا على ضَابطَتهم لكونها جزءًا من المضاف إليه فلا يصح حَمْلُهَا‏.‏ قلت‏:‏ ولكنَّ السيد الجُرْجَاني صَرَّح في «حاشية المتوسط»‏:‏ أَنَّ الفِعْل بعد دخول حروفِ المَصْدر لا يَنْسلخ عن معناه بالكلية، ولا يأخذ جميعَ أحكام المصدر‏.‏ وقر مر معنا الفرق في قوله‏:‏ أعجبني أن يقوم زيدٌ، وقوله‏:‏ «قيامُ زيدٍ‏.‏ ثم إنَّه إشارةٌ إلى آية القرآن وهي‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 101‏)‏، وأنها في قَصْر الهيئة لا فِي قَصْر العدد، وقد مَرَّ البحثُ فيه‏.‏

باب‏:‏ فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاة

ومسافةُ القَصْر في المذهب مسيرةُ ثلاثةِ أيام ولياليها‏.‏ ثُمَّ حَوَّلُوها إلى التقدير بالمنازل، فاختلفوا فيه على أقوال‏:‏ منها ستةَ عشرَ فَرْسخًا‏.‏ كل فَرْسخ ثلاثةُ أميال، فتلك ثمانيةٌ وأربعونَ مِيْلا، كمافي الحديث‏.‏ وبه أُفتي لكونه مذهبَ الآخَرِين‏.‏ وهي عند الظاهري على اللغةِ، فكلُّ ما يطلقُ عليه السَّفَر لغةً تكون مسافةُ القَصْرِ عنده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يومًا وليلةً سفرًا‏)‏ يعني جَعَله من جزئيات السَّفَر لا أنه قصره عليه‏.‏ ولعل المصنف رحمه الله تعالى أرادَ الإِطلاق في السَّفَر كمذهب داود الظاهري‏.‏

قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ وفيه ما يدلُّ على اختياره أن أقلَّ مسافةِ القَصْر يومٌ وليلةٌ ولما لم يكن عند المصنف رحمه الله تعالى في القَصْر والإِتمام حديث، أخرج له حديثَ الحجِّ والسفر للحاجات العامة، كقوله‏:‏ «لا تُسَافِر المرأةُ ثلاثًا»، فإنه لم يقع في مسألةِ الإِتمام والقَصْر، بل وَرَدَ في سَفَر الحاجات، واختلفت فيه الروايات‏.‏ وفي بعضها‏:‏ مَسيرةُ يومٍ ولَيْلَة، وهو عندي مُخْتَلِفٌ باختلاف الأحوال، والأحاديث في هذا الباب صُدِّرَت عن حضرةِ الرسالة تارةً كذا، وتارةً كذا، وليست محمولةً على اختلافِ الرواة‏.‏ وفي كُتب الحنفية عَامَّةً عَدَمُ جوازِ السَّفَر إلا مع مَحْرَم‏.‏

قلتُ‏:‏ ويجوزُ عندي مع غير مَحْرم أيضًا بِشَرْط الاعتماد والأَمْن من الفتنة‏.‏ وقد وَجَدْتُ له مادةً كثيرةً في الأحاديث أما في الفِقْه فهو من مسائل الفِتن‏.‏

باب‏:‏ يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِه

وهو المسألة عندنا‏.‏

1089- قوله‏:‏ ‏(‏وبِذِي الحُلَيْفَةَ رَكْعَتَيْن‏)‏ أي قَصَر فيها وقد خَرَج للحجِّ، لا أنه قَصَد ذا الحُلَيفة وقَصَر فيها‏.‏

باب‏:‏ يُصَلِّي المَغْرِبَ ثَلاثًا في السَّفَر

ونقل العَيْنِي أَنَّ ابن دِحْية المغربي- وهو مِنْ حُفَّاظ الحديث- أفتى بِقَصْرِ المَغْرِب أيضًا ولم يذهب إليه أَحَدٌ‏.‏ وقد كَشَفَت عن مَنْشَأَ غَلَطه في رسالتي «كشف الستر» من أَواخرها، وخلاصته‏:‏ أن منشأه ما رُوي عن أبي موسى الأشعري- كما في الهامش- أنه سَلَّم في الْمَغْرِب بين شَفْع المغرب وركعتها‏.‏ فأخرجه الهَيْثَمي في سجود السهو، وأشار إلى أنه سَبَق منه التسليمُ سهوًا، لا أنه كان بناءً على القَصْر في الْمَغْرِب‏.‏ وهذا هو منشأ غَلَط ابن دِحْية، وهو كثيرُ الغرائب فاعلمه‏.‏

1092- قوله‏:‏ ‏(‏وأَخَّر ابنُ عُمَر الْمَغْرِب، وكان استُصْرِخَ على امرأَتِهِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ واختلف الرواة في بيان تأخيره تلك الليلة‏:‏ ففي بعض الروايات أنه نزل بعد غيبوبة الشَّفق‏.‏ وجمع بين المغرب والعشاء‏.‏

وفي بَعْضٍ أَنَّه أَخَّرَ الْمَغْرِب إلى رُبُع الليل‏.‏

والصواب عندي أنه واقعةٌ واحدة، وهي على وجهها عند أبي داود وفيه‏:‏ «حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نَزَل فَصلَّى المغربَ، ثم انتظر حتى غاب الشَّفَقُ فَصَلَّى العشاءَ، ثم قال‏:‏ إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم كان إذا عَجِل به أَمْرٌ صَنَع مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتُ»‏.‏ اه‏.‏ وحَمَله الحافظ رحمه الله تعالى على تَعَدُّد الواقعة، وهو بعيدٌ عندي، بل هو واقعةٌ واحدةٌ اختلف فيها الرواةُ من حيث المبالغةُ في بيانِ التأخيرِ والجمع فيها على عين مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى‏.‏ وفيها تفسيرٌ لِجَمْع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أيضًا أنه كيف كان‏.‏ وما يدلُّك على أنها واقعةٌ واحدةٌ ما عند أبي داود، ولم يُرَ ابنُ عمرَ رضي الله تعالى عنه جَمَع بينهما إلا تلك الليلة، يعني ليلة اسْتُصْرِخَ على صفيةَ رضي الله تعالى عنها‏.‏ وعن مكحول عن نافع أَنَّ ابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه فَعَل ذلك مرةً أو مرتين- بالشَّكِ ‏.‏

وقد ذَكَرَ القاضي أبو الوليد الباجي‏:‏ أن في لفظ الجَمْع إيماءً إلى أن الجَمْع كان صُوْرِيًا‏.‏ وإلا فالأَظْهرُ أن يقال‏:‏ صَلَّى الْمَغْرِبَ في وقت العشاء، ولكنه عدل عنه إلى لَفْظ الْجَمْع إفادةً لتأخير الصلاة الأُوْلى، وتعجيل الثاني، والجَمْع في وَقْتِيْهِما‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّوَابِّ، وَحَيثُما تَوَجَّهَتْ بِه

والاستقبالُ شَرْطٌ عند التحريمة عند الشافعي رحمه الله تعالى، ومُستحبٌ عندنا‏.‏ وعند أبي داود ‏(‏ص 173‏)‏ باب التطوع على الراحلة‏:‏ «أنَّ سولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم كان إذا سَافرَ فأراد أن يتطوَّعَ، استقبل بناقَتِهِ القِبْلة فَكَبَّر، ثُم صَلَّى حيث وَجَّهَهُ رِكَابُه»‏.‏ اه‏.‏ وَحَمَلَهُ ابنُ أميرِ الحاجِّ على الاستحباب‏.‏

باب‏:‏ الإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّة

وهو المسألة عندنا، فإنه لا يَقْدِرُ عليها إلا على الإيماء‏.‏ ووسع أزيد منه، فراجع مسائل طهارة السَّرْج ونجاسته في الفِقْه‏.‏

باب‏:‏ يَنْزِلُ لِلمَكْتُوبَة

وهو المسألة عندنا وعندهم إلا إذا كان وَحَلٌ لا يمكن السجود على الأرض، فإنَّه يصليها في دابته، أو كان مطلوبُهُ «نحو المشرق» ولم تكن قِبْلته في تلك الجهة‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الحِمَار

ترجم أولا بالصلاة على الدابة مطلقًا، ثم توجَّه إلى الحمار خصوصًا لكونه حرامًا‏.‏ واختلف العلماءُ في ثبوتِ الصلاة على الحمارِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مع اتفاقهم على جوازِ الصلاة عليه‏.‏ وأما ترجمةُ المصنِّف رحمه الله تعالى فبناؤها على أَثر أَنس رضي الله تعالى عنه‏.‏ وإنما كان أنسُ ذهب إلى الشام ليشكوَ لِعبدِ المَلِك مما يلقاه من الحَجّاج‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ في السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلاةِ وَقَبْلَهَا

وفي نسخة‏:‏ وقبلها، واختلفوا فيه، فقيل‏:‏ لا يتطوع أصلا لا قبل المكتوبة ولا بَعْدَها، لأَنَّ المكتوبة إذا قُصِرت في السفر، فَتَرْك التطوع أَوْلى‏.‏ وقيل‏:‏ يُصلِّي البعدية دون القَبْلية‏.‏ وذلك لأنَّ القَبْلة كانت تُؤدَّى في البيت، بخلاف البعدية فكانوا يَرَوْنه يصليها فلم يَسَع منهم نَفْيُها، بخلاف القَبْلية فإنهم إذا يَرَوْه يصلِّيها حملوها على التَرْك‏.‏ وقيل‏:‏ بالفرق بين النهارية والليلية، فيصلِّي التهجُّد فقط‏.‏ وقال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى‏:‏ يَتْرُكُهَا إن كان سائرًا، ويصلِّيها إن كان نازلا‏.‏ وَمَنْ ذهب إلى إتيانِ الرواتب في السَّفَر قال‏:‏ إن الرواتِبَ كانت من أَصْلِها منحطة عن المكتوبات، ولا تضاهيها، فلا يلزم بالقَصْر في المكتوبات تَرْك التطوع‏.‏ فلو قلنا بإتيانها مع القَصْر في المكتوبات لم يلزم الخُلْف‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد روى ابنُ أَبي ليلى عند الترمذي مرفوعًا‏:‏ «أن ابنَ عَمرَ رضي الله تعالى عنه صلَّى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الظُّهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين»‏.‏ قال أبو عيسى‏.‏ وسَمِعْت محمدًا يقول‏:‏ ما روى ابنُ أبي ليلى حديثًا أعجبُ إليَّ من هذا، فلا ينبغي إنكارُها مطلقًا، نعم لم يثبت عنه السُّننُ في الصِّحاح‏.‏ والعمل عندي على ما قاله محمدُ بن الحسن رحمه الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏‏)‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 21‏)‏ أي فِعْلا وتركًا‏.‏ والأُسْوة صفةٌ مشبَّهة، وترجمته ‏(‏بيشوا‏)‏‏.‏ فهو من باب التجريد على حَدِّ قوله‏:‏ لقيت من فلانٍ بحرًا‏.‏ فالبحر مأخوذ منه، والاثنيين ههنا تخييلية بأَخْذ الشيءِ من ذلك الشيء بعينه‏.‏

1102- قوله‏:‏ ‏(‏صَحِبْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم فكان لا يزيدُ في السَّفَر على ركعتين وأبا بكر وعمرَ وعُثْمَانَ كذلك‏)‏ وإنما لم يذكر عليًا لأنه بعد البَيْعة ذهب إلى الكوفة، فأين كان يَصْحبه ثُم الظاهر أنَّ قول ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا في بيان القَصْر لا في بيان تَرْك السُّنَن‏.‏

باب‏:‏ مَنْ تَطَوَّعَ في السَّفَرِ في غيرِ دُبُرِ الصَّلوَاتِ وَقَبْلَها

وهذه النسخةُ هي الأرجح، وتُشْعر بأن نَفْي التطوع في السفر عنده محمولٌ على ما بعد الصلاة خاصَّةً، فلا يتناولُ ما قبلها وما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، كالتهجد والوِتْر، والضحى‏.‏ والفَرْق بين ما قَبْلها وما بَعْدَها أن التطوعَ قَبْلَها لا يُظنّ أنه منها، لأنه يَنْفَصِل عنها بالإِقامة وانتظار الإِمام غالبًا ونَحْوٍ ذلك، بخلاف ما بعدها فإنَّه في الغالب يتصل بها، فقد يظنُ أنه منها‏:‏ كذا قال الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏ وفي بعض النُّسخ‏:‏ في غير دُبُر الصلاةِ وقبلها وهو مرجوح، فصلَّى ثماني ركعات‏.‏ وعند أبي داود تصريحٌ بالسلام فيها على كل ركعتين‏.‏ واختلفوا «أنها كانت شُكْرًا» للفتح وصادفت وَقْت الضحى، أو كانت صلاةَ الضُّحَى المعروفة‏.‏

1104- قوله‏:‏ ‏(‏صلَّى السُّبْحَةَ باللَّيْل‏)‏ هذه هي الليلية، وهي ثابتةٌ كثيرًا‏.‏

باب‏:‏ الجَمْعِ في السَّفَرِ بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاء

واعلم أن المصنف رحمه الله إمَّا جنَح إلى الجمع صورةً أو الجمع فِعْلا على اصطلاحنا، أو لم يَحْكُمْ فيه بجانب، لأنه إمَّا ترجم بعينِ لَفْظِ الحديث، وهذا يُشْعِر أَنَّه لايريدُ فيه فَصْلا وإلا لزاد لفظًا يتعينُ به مرادُهُ في موضع الخلافِ، أو ترجم بالتأخير‏.‏ وقد مَرَّ أن عُنوانَ تأخير صلاةٍ إلى صلاة أقربُ بِنَظَر الحنفية‏.‏ ثُمَّ إنَّ البخاري صوَّبَ جَمْع التأخير وعلَّل جَمْعَ التقديم، فبوَّب بتأخير الظهر إلى العصر، ولم يبوِّب بتقديم صلاةٍ إلى صلاة‏.‏

وقد صرَّح المالكيةُ أن الْجَمْعَ في التأخير فِعْليُّ فقط، وفي التقديم وقتي، فثَبت نَفْيُ جمع التقديم وقتًا من كلام البخاري رحمه الله تعالى، ونَفْيُ جمع التأخير وقتًا من تصريحِ المالكية، وهو مذهب الحنفية أن الجَمْعَ عندهم فِعْلٌ فقط، كما عرفت‏.‏

وقد مر معنا أن الجَمْع عندي محمولٌ على اشتراك الوقت فإنَّ المِثْل الأول للظهر خاصَّة، والثالث للعصر كذلك، والثاي مشترَكٌ يصلح لهما، إلا أن المطلوبَ هو الفَصْل، ويرتَفِع ذلك في السَّفر والمرض‏.‏ وقد ذكر الطحاوي رحمه الله تعالى جماعةً من السَّلَف ذهبوا إلى اشتراك الوقت‏.‏

قلتُ‏:‏ ولاأحسبُهم إلا أنهم يكونون قائلين بالفَصْل بين الصلاتين في غير السَّفَر والمرض وإنْ ذهبوا إلى اشتراك الوقت، وهو معنى الموقوف كما مَرَّ‏.‏ ثم ما هذا التأخير في التزام اشتراك الوقت، ألا ترى أنهم يكتبون وقتًا في صَدْر الباب، ثُمَّ يَقْسِمُونه إلى مستحبٍ وغيره، وقَسَمه الشافعيةُ إلى خمسةٍ، كما مرَّ‏.‏ فإذا قالوا في صدر الباب‏:‏ إنَّ وقت العصر إلى غروب الشمس، ثُمَّ صرحوا أن آخِر وقتها مكرُوهٌ تحريمًا، فأيُّ بُعْدٍ في تقسيم المِثْل الثاني بأنه وَقْتُ الظهر والعَصْر معًا، فهو وَقْتُ الظهر ويصِحُّ فيه العَصْرُ أيضًا، فإنَّه أيضًا قِسْم‏.‏

وبه يَنْحَلُّ حديثُ حَمنة رضي الله عنها في باب الحيض، وفيه أنه أَمَرَها أن تَجْمَع الصلاتين في غُسْل، فإنَّه ينبني على اشتراك الوقت عندي كما مر، ولا سيما إذا رواه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في «مسند» أبي عَروبة الحَرَّانِي- تلميذ الطحاوي ‏:‏ فلا يقالُ‏:‏ إنه اختار نَقْضَ طهارة المعذور بخروج الوقت، وهو لا يَدْري هذا الحديثَ، بل قالها وهو يعلم أن حَمنة رضي الله عنها قد أُمِرَت أن تَجْمَع بين الصلاتينِ في غُسْل، وإذن وَجَب أن يكونَ اختار اشتراك الوقت، وجوَّز الوَصْلِ للمعذور مع مطلوبيةِ الفَصْل لغيره‏.‏

واعلم أنَّ أوَّل مَنْ دَوَّن مذاهبَ الصحابة رضي الله عنهم الطحاوي رحمه الله تعالى فَصَنَّف كتابه «اختلاف العلماء»، ثُمَّ محمد بن نصر، وابن جرير، وابن امُنْذر بعده، ثم أو عمرو خامس خمسة‏.‏ والناسُ بعدَهم تَبَع لهم في هذا الباب، ولذا يُعتمد على الطحاوي رحمه الله تعالى في هذا الباب ما لا يُعَتَمدُ على غيرهِ‏.‏

باب‏:‏ هَل يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاء

وقد مَرَّ أنه يُؤذن في السفر ويقيم لهما، فإن اكتُفِي بأذَانٍ مع تَعَدُّد الإقامة جاز‏.‏

1109- قوله‏:‏ ‏(‏ولا يُسَبِّحُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وعندي يُستفاد من الحديث حَذْف الرواتب لِمَنْ جمع بين الصلاتين‏.‏ ولذا يقولُ الراوي عند ذِكر الجَمْع‏:‏ سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا في العصرين والعشاءين‏.‏ وقد صَرَّح العارف الجامي رحمه الله تعالى في مناسكهِ بِحَذْفِ الرواتب عند الجَمْع بالمُزْدَلِفة‏.‏

باب‏:‏ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى العَصْر إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزيغَ الشَّمْس

باب‏:‏ إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَما زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِب

فترجم بتعبيرِ الحديث بعينه ولم يُفْصِح بشيء، وقد مَرَّ أنه أَصْدَقُ على مذهب الحنفية‏.‏

111- قوله‏:‏ ‏(‏كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا ارْتَحَل قَبْلَ أَنْ تَزِيْغَ الشَّمْسُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ والمذكور فيه جَمْع التأخير فقط وعند الترمذي وغيره جَمْع التقديم أيضًا‏.‏ ولفظه عند الترمذي عن معاذ رضي الله عنه‏:‏ «وإذا ارْتَحَل بعد زَيْغ الشمس عَجَّل العصرَ إلى الظهر، وصلى الظُّهْر والعَصْر جميعًا ثُمَّ سَاروا» اه‏.‏ وهذا صَرِيْحٌ في جَمْع التقديم وحَمْله على الجمع الصُّوري أو الجمع فعلا لعبد‏.‏ فإنه إن قلنا أنه كان الجمع فعلا، لزم أن يقال‏:‏ إنه كان يجلِسُ معطِّلا حتى إذا جاء آخِرُ وَقْتِ الظهر قام فصلَّى‏.‏ ثُمَّ عجل العَصْر فصلاها مع الظُّهْر، وهذا يوجِب الإخلال بمقاصدِ السفر، لأن أكثرَ وقته يضيعُ في انتظارِ آخِر وقت الظهر، والمقصودُ قَطْعُ السفر لا تَطْوِيْلُه بالجُلُوس‏.‏

قلتُ‏:‏ والجواب أنه معلولٌ وقد ذَكَرْتُ وَجْهَه في الترمذي، ولئن سلمت فالجواب‏:‏ أن الحالاتِ في السفر على أنحاء، قد يكونُ النَّفْع في السير عقيبَ الزوال‏:‏ بأن يَرْتَحِل حتى إذَا كان آخِرُ وقت الظهر يَنْزل ويَجْمع بين العصرين، وقد يكون النَّفعُ في المُكْث حتى يمكنَه الْجَمْعُ بينهما فيجمع بينهما، ثُمَّ يَرْكَبُ مَطِيَّته ويتتابعُ في السير حتى ينزل للجَمْع بين العشاءين، ولا يحتاجُ إلى نزولهِ للعَصْر القَطْع لسَفَره‏.‏ فالتمادي في الصورة الأُولى في الأول، وفي هذه في الآخِر‏.‏

ويَشْهَد له ما في «الفتح» عن البيهقي‏:‏ «أنه كان إذا نَزَل مَنْزلا في السفر فأعجبه أقام فيه، حتى يَجْمَع بين الظهر والعَصْر ثم يَرْتَحِل، فإذا لم يتهيأ له المَنْزل مَدَّ في السَّير فسار، حتى ينزلَ فيجمع بين الظُّهر والعَصْرِ» اه‏.‏ فدلَّ على أنه قد كان يقيمُ بالمنزل إذا أعجبه، ويَبْقى هناك حتى يَجْمَع بين العصرين ثم يرتحل، ويُتابع في السَّفر حتى يمكن له الجَمْعُ بين العشاءين، وإنْ لم يتهيأ له لم يكن يَنْزِل له‏.‏

وفي «الجامع» للترمذي‏:‏ «أنه قد كان يُؤخِّر الظُّهر في السَّفر حتى يُساوي الفيءُ التُّلول»‏.‏ فدل على شِدَّة تأخيره وطول إقامته، ويحصل في مِثْله الجَمْعُ بدون تكلُّف‏.‏ ولعلك علمتَ منه أن ما رواه الترمذي من حديث معاذ رضي الله عنه أيضًا صحيحٌ، ولا حاجة إلى إعلاله كما فَعَله الجمهور‏.‏ والاختلاف يُبنى على اختلاف صُوَر السفر، والجَمْعُ فيه جَمْعُ فِعلا في كل حالٍ، وما يتبادر فيه مِنْ جواز جَمْع التقديم فَفَرْطٌ من الوَهْم‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ القَاعِد

واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لم يترجم للفَرْق في جوازِ القعود وعدمه بين التطوّعِ والفريضة، ولا أَوْمأ إليه في مَوْضع، مع اتفاق أهل الإجماع على عَدَم جوازه في المكتوبات إن قَدِر على القيام، لأنه عَلِم أن لا تفصيلَ فيه في الأحاديثِ القوليةِ، ففوَّضه إلى الخارج، فمتى ما أجازت له الشريعةُ بالقعودِ جاز له القعودُ، وأينما نَهَت عنه لم يَجُز له‏.‏ ألا ترى إلى حديث عِمْرَان عند البخاريّ رحمه الله تعالى- كما سيأتي بعد عدة أحاديث ‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صلاةِ الرَّجُل قاعدًا فقال‏:‏ «إنْ صلَّى قائمًا فهو أَفْضَلُ، ومَنْ صلَّى قاعِدًا فله نِصْفُ أَجْر القائم، ومَنْ صَلَّى نائمًا فله نِصْفُ أَجْرِ القاعد«اه‏.‏ فلم يتعرَّضِ فيه إلى تفصيلٍ بين القيام والقعود، متى يجوزُ ومتى لا يجوز، لأن الحديث سِيق لبيانِ التَّنْصِبف‏.‏

وأما مسائلُ القيام والقعود فكما قد عَلَّمته الشريعةُ مِنْ قَبْل، فيكون بَني ما في الحديث وبين تفاصيل القيام والقعود عمومٌ وخصوصٌ من وجه‏.‏ ومِن ههنا تَبيَّن جوابُ ما قيل إنَّ حديثَ عمران لا يَصْدُق على الفريضةِ ولا على التطوع‏.‏ فإنَّا إنْ حملناه على الفريضةِ لَمْ يَصِحَّ أَوَّلُ الحديثِ‏:‏ «إنْ صلّى قائمًا فهو أَفْضَلُ»، لأنَّ القيامَ فَرْضٌ فيها، وإنْ حَمَلناه على التطوع لَم يَصِحَّ آخِرهُ، لأنَّ التطوُّعَ لا يجوز نائمًا عند أحدٍ إلا ما في «الغاية» عن الشيخ شمس الدين‏:‏ أَنَّها تجوزُ مُضْطَّجِعَا أيضًا في قول، وقال ابن الهُمام رحمه الله تعالى‏:‏ لا أعرف قولا بجواز النافلة مضطجعًا عن أحد من أصحابنا، وكذا قوله‏:‏ «وَمَنْ صلَّى قاعدًا»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، لا يأتي على المكتوبةِ ولا على التطوُّع، فإنه إنْ أخذناه بلا عُذْرٍ لم يصدق في حَقِّ المكتوبة لأن المكتوبة قاعدًا بدون لاعُذر لا تصح مطلقًا فلا أحر فيها أصلا وإن أخذناه مع العُذْر لا يستقيمُ عليه تَنْصِيفُ الأَجْر‏.‏ فالجواب أن الحديثَ وَرَد في مسألة التنْصِيف فقط‏.‏ وأَما مسائلُ جوازِ القعود والقيام فتبقى على ما مَهدها الشَّرْعُ، ويبقى معها عُمومٌ وخصوصٌ من وَجْه‏.‏

ثُمَّ اعلم أن التنْصِيف في الحديث ليس باعتبار قيام الأَصِحَّاء، بل باعتبارِ قيام المَعْذُورين وقعودِهم‏.‏ وقد صَرَّح ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى‏:‏ أن العَجْز على نَحْوين‏:‏ حقيقي، وحُكْمي‏.‏ والأول أن يَتَعَذَّر عليه القِيَامُ ولا يُمكَّنُ منه أصلا، والحُكْمِي أن يُرَخِّص له الشَّرْعُ بالقعود، مع أنه لو تَكَلَّفَ على نَفْسِهِ أُمْكِن له القيامُ أيضًا، فهذا القاعدُ المعذورُ إن صلَّى قاعدًا فله نِصْفُ أَجْرِ قيامه لو تكلَّفَ وصلَّى قائمًا، لا نِصْف أَجْرِ الصحيح، فإنَّ قعودَه إذا كان بالعُذْر فهو كقيامِ الصحيح‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ القَاعِد

واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لم يترجم للفَرْق في جوازِ القعود وعدمه بين التطوّعِ والفريضة، ولا أَوْمأ إليه في مَوْضع، مع اتفاق أهل الإجماع على عَدَم جوازه في المكتوبات إن قَدِر على القيام، لأنه عَلِم أن لا تفصيلَ فيه في الأحاديثِ القوليةِ، ففوَّضه إلى الخارج، فمتى ما أجازت له الشريعةُ بالقعودِ جاز له القعودُ، وأينما نَهَت عنه لم يَجُز له‏.‏ ألا ترى إلى حديث عِمْرَان عند البخاريّ رحمه الله تعالى- كما سيأتي بعد عدة أحاديث ‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صلاةِ الرَّجُل قاعدًا فقال‏:‏ «إنْ صلَّى قائمًا فهو أَفْضَلُ، ومَنْ صلَّى قاعِدًا فله نِصْفُ أَجْر القائم، ومَنْ صَلَّى نائمًا فله نِصْفُ أَجْرِ القاعد«اه‏.‏ فلم يتعرَّضِ فيه إلى تفصيلٍ بين القيام والقعود، متى يجوزُ ومتى لا يجوز، لأن الحديث سِيق لبيانِ التَّنْصِبف‏.‏

وأما مسائلُ القيام والقعود فكما قد عَلَّمته الشريعةُ مِنْ قَبْل، فيكون بَني ما في الحديث وبين تفاصيل القيام والقعود عمومٌ وخصوصٌ من وجه‏.‏ ومِن ههنا تَبيَّن جوابُ ما قيل إنَّ حديثَ عمران لا يَصْدُق على الفريضةِ ولا على التطوع‏.‏ فإنَّا إنْ حملناه على الفريضةِ لَمْ يَصِحَّ أَوَّلُ الحديثِ‏:‏ «إنْ صلّى قائمًا فهو أَفْضَلُ»، لأنَّ القيامَ فَرْضٌ فيها، وإنْ حَمَلناه على التطوع لَم يَصِحَّ آخِرهُ، لأنَّ التطوُّعَ لا يجوز نائمًا عند أحدٍ إلا ما في «الغاية» عن الشيخ شمس الدين‏:‏ أَنَّها تجوزُ مُضْطَّجِعَا أيضًا في قول، وقال ابن الهُمام رحمه الله تعالى‏:‏ لا أعرف قولا بجواز النافلة مضطجعًا عن أحد من أصحابنا، وكذا قوله‏:‏ «وَمَنْ صلَّى قاعدًا»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، لا يأتي على المكتوبةِ ولا على التطوُّع، فإنه إنْ أخذناه بلا عُذْرٍ لم يصدق في حَقِّ المكتوبة لأن المكتوبة قاعدًا بدون لاعُذر لا تصح مطلقًا فلا أحر فيها أصلا وإن أخذناه مع العُذْر لا يستقيمُ عليه تَنْصِيفُ الأَجْر‏.‏ فالجواب أن الحديثَ وَرَد في مسألة التنْصِيف فقط‏.‏ وأَما مسائلُ جوازِ القعود والقيام فتبقى على ما مَهدها الشَّرْعُ، ويبقى معها عُمومٌ وخصوصٌ من وَجْه‏.‏

ثُمَّ اعلم أن التنْصِيف في الحديث ليس باعتبار قيام الأَصِحَّاء، بل باعتبارِ قيام المَعْذُورين وقعودِهم‏.‏ وقد صَرَّح ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى‏:‏ أن العَجْز على نَحْوين‏:‏ حقيقي، وحُكْمي‏.‏ والأول أن يَتَعَذَّر عليه القِيَامُ ولا يُمكَّنُ منه أصلا، والحُكْمِي أن يُرَخِّص له الشَّرْعُ بالقعود، مع أنه لو تَكَلَّفَ على نَفْسِهِ أُمْكِن له القيامُ أيضًا، فهذا القاعدُ المعذورُ إن صلَّى قاعدًا فله نِصْفُ أَجْرِ قيامه لو تكلَّفَ وصلَّى قائمًا، لا نِصْف أَجْرِ الصحيح، فإنَّ قعودَه إذا كان بالعُذْر فهو كقيامِ الصحيح‏.‏

1113- قوله‏:‏ ‏(‏إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَّمَ بِهِ‏)‏ أي جُعِلَ الإمامُ ليُقْتدى به في أقواله، فيسمع المؤتمُّ ما يَقُوْلُهُ، ويتبع فيه، ولا يكون الإِمامُ مَنْ لا يُسْمع لِقَوله، ولا يُبَالي بِأَمْرِه، فالتقدُّمُ والتأخُّرُ في الأفعال ليس من الائتمام في شيءٍ، وحينئذٍ صَلُح الحديثُ أن يُسْتدَّل به على تَرْك الفاتحةِ خَلْف الإمام، فإنَّ الإمام يجهرُ بِهَا كي يسمعَها المقتدي، وهذا يَقْرأُ ولا يُصْغِي لقراءته، فهل تعدُّ مُتَّبِعًا أم مُشَاغِبَا‏.‏

ثُم لا بأس أن نعودَ إلى مسألةِ وجوبِ القعود خَلْفَ الإمام القاعد أو عدَمِه وإن فَصَّلناها مِنْ قبل، لأَنَّا قد دخلنا الآنَ في حديث الجُحُوش، فبانَ لنا أن نُعِيد أشياءَ، لعلَّ اللَّهَ ينفعك بها‏.‏

فاعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كما لم يفصل بين التطوُّع والفريضةِ في حديثِ عمران كما علمت، كذلك لم يفصل بينهما في حديث الجحوش‏.‏ والجمهور على أنه في الفريضةِ إلا ابنَ القاسم، فإنه ذَهب إلى أنَّه في النافلة‏.‏ أما قوله في البخاري‏:‏ «فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ» فليس صريحًا في كونهِ في الفريضة، لأنه وَقَع هذا اللَّفْظِ في النافلة أيضًا عند البخاري رحمه الله تعالى، ولستُ أَدَّعِي أنه في حَقِّ النافلة، ولكن أقولُ‏:‏ إنَّ له وجهًا أيضًا‏.‏

1115- قوله‏:‏ ‏(‏إن صلَّى قائمًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وحاصِلهُ عندي أن الإمام إن اضطر إلى القعودِ لِعُذْر وصلَّى في بيته قاعدًا، فلم لا تصلون أنتم خَلْفَه لِيناسِب لكم القعودُ أيضًا من حيث رعايةُ الإمامة والاقتداء‏؟‏ بل عليكم أن تبتغوا إمَامًا آخَر صحيحًا يصلِّي بكم قائمًا لتتمكنوا مِنْ القيام خَلْفَه‏.‏

فالحاصل‏:‏ أنَّ الحديث سِيق لِذمِّ التعنُّت في الاقتداء بالإِمام المعذور، لا لإِيجاب القعودِ على المقتدي، وإنْ كان قادِرًا على القايم فليس فيه إلا تحسينُ القعودِ عند قعود الإمام‏.‏ ولا يخرجُ منه تحريمُ القيامِ خَلْف القاعد ولا حَرْف، مع أنَّ الواجِب عند أحمد رحمه الله تعالى هو القعودُ ويَحْرُم القيام‏.‏

وما قاله المالكية رحمهم الله تعالى‏:‏ إنَّ الجالِس ليس له أن يؤمَّ القائمين ولا الجالسين، فمرادُهم أيضًا أنه لا ينبغي له ذلك، وأيُّ حاجةٍ إلى إِمامتِهِ إذا تيسَّر له الإمامُ الصحيح‏.‏ لأن الوليد بنَ مسلم روى عن مالك رحمه الله تعالى أن الجالسَ لو قام خَلْفَ القاعِدِ فهو جائزٌ‏.‏ فانكشف منه أَنَّ نهيه عن إمامةِ المعذور كان على طريقِ الأنبياء‏.‏

وأما أحمدُ رحمه الله تعالى فإنَّه فَرَّق بين القعودِ الأَصلي والطارىء‏.‏ وذلك لأنه فَهِم أن تقبيحَ القيامِ خَلْفَ القاعد لمشابهةِ الأعاجم في قيامهم لعظمائهم، فإذا كان القعودُ طارئًا ارْتَفَعَ مناطُ التقبيح، لأن قعودَ الإمام مِنْ عُذْر سماوي ولا ذَنْب فيه للمُقْتَدِين فلا لَوْم عليهم في قيامهم، لأنه لا يكون حينئذٍ من قيامِ الأعاجم كما هو ظاهر‏.‏ ولذا عَنَّفهم في واقعة الجحوش، لكونه مُصَلِّيَا في بيته، وتعنَّت هؤلاءِ في الاقتداء به في اليوم الثاني أيضًا‏.‏ وإنما أغمض عنهم في قِصة مَرَضِ الموت لأنه هو الذي خرج إليهم فأمَّهُم، فلم يكونوا مْتَعَنِّتِين أصلا‏.‏ وما فَصَّله ابن حِبان من كون الصلاةِ في تلك الواقعة فريضةً أو نافلةً فلا دخل له أصلا، ولا إيماءً إليه في لفظه صلى الله عليه وسلّم والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ القَاعِدِ بِالإِيمَاء

قيل‏:‏ إن الحديثَ لا ذِكْر فيه للإِيماء، فكيف ترجم به‏؟‏ وأجيب أنه يمكن أن يكونَ في نسخة المصنف «بإيماء» مكان نائمًا، وقيل‏:‏ إن نظره إلى لفظ النَّسائي وفيه «بإيماء»‏.‏ ثم اتفق المحدِّثون على أنه تصحيفٌ، والصواب «نائمًا»، فلا يمكن بناءُ الترجمة عليها أيضًا‏.‏ فإن قلت‏:‏ إن النائِمَ فَسَّره المُحشِّي بالمضطجع، والمضطجع لا يصلِّي إلا بالإيماء فَثَبَتْ ترجَمَتُهُ‏.‏ قلتُ‏:‏هَبَّ، لكنَّ المصنف رحمه الله تعالى ترجم بإيماء القاعد دون المضطجع‏.‏ ويمكن أن تُحمل ترجمتُهُ على رأي الذين يُجوِّزون الإيماءَ حالَ القعود أيضًا، كما في «الفتح»، فتصِحُّ ترجمته على مذهبِ هذا البعض‏.‏ وعندي نَظَرُهُ إلى أَنَّ القاعِدَ له نِصْفُ الأجر كما نطق به الحديثُ، مع أنه لم يترك إلا القيامَ، فلا وَجْه له إلا أنه بالقعود نَقَص في ركوعه وسجوده أيضًا، كما في الحِسّ أنَّ الرُّكوعَ من القيام أتمُّ منه من القعود، وكذلك السجود، فإنَّ الانخفاضَ في سجدةِ القائم يَحْصُل ما لا يَحْصُل في سجدة القاعد، فإذا أدخل النقيصةَ في أركان الصلاة، وكانت تلك الثلاثةُ أركانَها، حَسُن تنصيفُ الأَجر، ثم إنه لا بُعْد أن يُعبِّر عن هذين الركوع والسجود الناقِصَين بالإِيماء وإن عَبَّر عنهما الفقهاءُ بالركوع والسجود‏.‏

ولا يجب على المصنف رحمه الله تعالى أن يَتَّبِعهم في التعبير أيضًا، ألا ترى أنَّ الحديثَ سَمَّى سجودَ تارك التعديل نَقْرًا‏.‏ فهذه تعبيراتٌ وملاحظاتٌ لا حَجْر فيها، فعبَّر كيف شئت ولا حرج‏.‏

باب‏:‏ إِذَا لَمْ يُطِقْ قاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْب

بوَّب بالاضطجاع وتَرَك الاستلقاء، وهو المختار عند الشافعية‏.‏ ويجوز عندنا الاستلقاء أيضًا‏.‏ واستدل له الزَّيْلَعِي بما أخرجه النَّسائي، وليس في «صغراه»، فالظاهر أنه يكون في «الكبرى»، وفيه الاستلقاء أيضًا‏.‏ وتمسَّك الشافعيةُ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 191‏)‏ حيث اقتصر على الصُّور الثلاثِ ولم يتعرَّض إلى الاستلقاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عَطَاء‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ سقط عنه الاستقبال‏.‏ ثُمَّ في القدرةِ بالغير كلامٌ في كُتُبِنَا، وليراجع له «شَرْحُ الوِقاية»‏.‏

1117- قوله‏:‏ ‏(‏فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ واعلم أن الصحابي في هذا الحديث، وفي حديث تنصيفِ الأجر- المار آنفًا- واحدٌ، ولكنَّ الظاهر أنهما حديثانِ مختلفانِ لاختلاف مَتْنِ الحديثين‏.‏ ثم لا يخفى عليك أنَّ الحديث لم يفصل فيه بين مُتنفلٍ ومُفْتَرِض مع أنه لا يأتي إلا على النافلةِ، وعليه فليعتبر قوله‏:‏ «إذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ لم يَسُقْه في الفريضة أو النافلة خاصَّةً، بل أطلقه، فيحملُ على ما لا يخالِفُ قواعِدَ الشَّرْع‏.‏

فشاكلةُ حديثِ الجحوش، والسقوط عن الفرس كشاكلةِ أحاديثِ تنصيفِ الأجر، والتخيير بين الصلاة قائمًا وقاعدًا وعلى جَنْب، وشاكلةُ أحاديثِ الائتمام‏:‏ «إنَّما جُعِل الإمامُ ليؤتمَّ به»‏.‏ فيبقى بين هذه الأحاديثِ ومسائل جواز القعود وعدمِه عمومٌ وخصوصٌ من وَجْهٍ، قد تجتمعُ في مادة وقد لا تجتمع في أخرى، فعليك أن تَحْمِلها على مَحَالِّهَا، وتأتي البيوتَ من أبوابها‏.‏ ثم معنى قوله في الحديث‏:‏ «فإنْ لم تستطع» أي فإن لم ترغب، والمرادُ منه في الفِقْه عدمُ القدرة لا عدمُ الرغبة‏.‏

باب‏:‏ إِذَا صَلَّى قاعِدًا، ثمَّ صَحَّ، أَوْ وَجَدَ خِفَّةً، تَمَّمَ ما بَقِي

وهو مذهبُ الإماام رحمه الله تعالى، خلافًا لمحمد رحمه الله تعالى بناءً على خلافية أُخْرى، وهي اقتداءُ القائم بالقاعد، فإذا لم يَجُز عنده هناك عَدَل عنه في هذه أيضًا‏.‏ ودلَّ ذلك على شِدَّةِ مراعاتِهِ بين شاكلةِ الإِمام والمقتدي، حتى لم يتحمَّل الاختلاف بينهما في القعود والقيام أيضًا‏.‏ ومن فروعه عَدَمُ جوازِ اقتداء المتوضىء خَلْفَ المتيمم عنده، ثُمَّ هذا من مراحل الاجتهاد، ويعتبرُهُ المجتهد إلى أيِّ مرتبة شاء‏.‏

وأما صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فتنقل على الأَنحاء كلها، وقد صلَّى قائمًا وركع وسجد وهو قائم، وقد صلَّى قاعدًا وركع وسجد كذلك، وقد صلَّى قاعدًا، فإذا بلغ قبيل الركوع قام وركع وسجد وهو قائم‏.‏ وهذا يُشْعِر بأنَّ الأحبَّ عند الشارع أن يكونَ الركوعُ والسجودُ عقيبَ الكلام، وهذا الذي كنتُ نَبَّهتك عليه‏:‏ أَنَّ ركوعَ القائم وسجوده أَتمَّ ولذا عَبَّر البخاري رحمه الله تعالى عن رُكوعِ القاعد وسجوده بالإِيماء‏.‏

ثُم إنَّ ابنَ شاهين أخرج حديثًا في «كتاب الناسخ والمنسوخ» يدُلُّ على عدم جواز اقتداء المتوضىء بالمتيمم، وادَّعى أنه منسوخٌ‏.‏ والذي تبين أنَّه من باب الاقتداء بالقاعد، أعني أن الشارع رَغَّب في كونِ حالِ الإمام أقوى من المقتدي، فعليه أن لا يتحرَّى الاقتداء بالمعذور، كالقاعد والمتيمم مثلا، بل ينبغي له أن يكون إمامُهُ على حال قويَ مِثْله‏.‏ فإذا كان يَقْدر على القيام نَاسَب له أن يكون إمامُهُ أيضًا مِثْلَه، وكذلك إِنْ كان متوضئًا حَسُن أن يكون إمامُهُ أيضًا كذلك‏.‏ فالنهي عنه مَحْمولٌ على نَهْي التحري عنه والتَطُّلبِ له، وليس فيه مسألةُ الجواز وعدمه، والله تعالى أعلم‏.‏

1119- قوله‏:‏ ‏(‏فإنْ كُنْتَ يَقْظي تَحَدَّثَ مَعِي‏)‏ واعلم أنَّ في الكلام بعد سُنة الفجر ضَيِّقٌ عند الحنفية‏.‏ وثبت عن السلف أنهم كانوا يكرهونه أيضًا، وفيهم أسوةٌ للحنفية، ومَنْ أَراد الاطلاعَ على آثارهم فلييراجع «مصنف» ابن أبي شيبة، نعم ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الكلامَ بعدها، ولا يُقاس كلامُ أَحَدٍ على كلامِهِ‏.‏

1119- قوله‏:‏ ‏(‏وإنْ كُنْتُ نائمةً اضْطَجَعَ‏)‏‏.‏ قال النَخَعي‏:‏ إن الاضجطاع بِدْعَةٌ‏.‏‏.‏ ثُمَّ نُسِبَ ذلك إلى الحنفية، مع أنه لم يَقُلْهُ مِنَّا أَحَدٌ‏.‏ والصواب أنَّ الكلَّ ثابتٌ، ولكنه لم يكن من العبادات، بل كان عادةً له صلى الله عليه وسلّم فمَنْ أرادَ تحصيلَ الأَجْر في اتباع عاداتِهِ صلى الله عليه وسلّم فله في ذلك سلفٌ، فَلْيُحْرِزِ الأَجْر ولا حَرَج‏.‏ ومَنْ قصد أن يَتَّبع في عباداتِهِ فليفعل، ولْيَحْظَى بما قدر له‏.‏